الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فمن أَتَى بالأُولى فهو في الدّرجة الأَدْنَى من التَّقْوَى، ومن أَتَى بالأُخْرَى فهو في الدّرجة العُلْيا.واعلم أَنَّ التَّقْوَى كَنْزٌ عزيزٌ، إنْ ظَفرْتَ به فكم تجد فيه من جَوْهَرٍ شريف وعلْقٍ نفيس، وخير كثيرٍ، ورزْقٍ كريم، وغُنْمٍ جسيم ومُلْك عظيم.فهى الخَصْلة التي تجمع خَيْرَ الدّنيا والآخرة.وتأَمَّل ما في القرآن من ذكْرها كم عَلَّق بها من خير، وكم وَعَدَ عليها من ثَواب، وكم أَضاف إليها من سَعادة، قال الله تعالى: {وَإن تَصْبرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَّالَّذينَ هُم مُّحْسنُونَ} وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقينَ} وقال: {وَمَن يَتَّق اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسبُ}.وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَديدًا يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فوَعَدَ فيها بإصْلاح العَمَل ثم بغُفْران الذُّنوب فقال: {وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.وبَشَّر بمَحَبَّة الله تعالى بقوله: {إنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُتَّقينَ} ولو لم يكن في تَقْوَى الله تعالى إلاَّ هذه الخصلة التي هي محبَّةُ الله تعالى لَكَفَتْ عمّا عَداها.ومنها أَنَّ العَمَلَ لا يُتَقَبَّل إلاَّ منهم، ومنها الإكرامُ والإعْزاز، قال الله تعالى: {الَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَياة الدُّنْيَا وَفي الآخرَة}.ومنها النَّجاةُ من النار، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجّي الَّذينَ اتَّقَوا} {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} ومنها الخُلُود في الجَنَّة، قال الله تعالى: {أُعدَّتْ للْمُتَّقينَ}.ثمّ تأَمَّلْ أَصلًا واحدًا، هب أَنَّك جاهَدْتَ وثابرت جميعَ عُمرك في العبادة، وعشْتَ ما عشت، وحصل لك من العنايات ما حصل، أَلَيْسَ ذلك كلُّه مُتَوقّفًا على القَبول؟ وإلاَّ كان هَباءً منثورًا.وقد علمنا أَنَّ الله تعالى إنَّما يَتَقَبَّل من المتَّقين، فَرَجَعَ الأَمرُ كلُّه إلى التَّقْوَى.وقال بعضُ المُريدين لَشْيخه: أَوْصنى قال: أُوصيكَ بما أَوْصىَ الله تعالَى الأَوَّلين والآخرين وهو قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذينَ أُوتُوا الْكتَابَ من قَبْلكُمْ وَإيَّاكُمْ أَن اتَّقُوا اللَّهَ}.قال الشيخ أَبو حامد رحمه الله: أَلَيْسَ اللهُ سبحانه أَعلمُ بصَلاح العَبْد من كلّ أَحدٍ، ولَو كانت في العالَم خصلةٌ هي أَصلحُ للعبد وأَجْمَعُ للخير، وأَعظمُ للأَجْر، وأَجَلُّ في العُبوديّة، وأَعظمُ في القَدْر، وأَوْلَى في الحال، وأَنجحُ في المآل من هذه الخَصْلَة التي هي التقوىَ لكان الله سبحانه أَمَرَ بهَا عبادَه وأَوْصَى خَواصّه بذلك؛ لكمال حكْمَته، ورحمته، فلمّا أَوْصَى بهذه الخَصْلة جميعَ الأَوْلين والآخرين من عباده واقتصر عليها عَلمْنا أَنَّها الغايةُ التي لا مُتجاوَزَ عنها، وأَنَّه عزَّ وجلّ جمع كُلَّ مَحْض نُصْح، ودَلالة، وإرشاد، وتأَديبٍ، وتعليم، وتَهْذيب في هذه الوصيّة الواحدة كما يَليقُ بحكْمَته ورحمته، فهى الخَصْلة الجامعةُ لخير الدُّنيا والآخرة، الكافيَة لجميع المهمات، المُبْلغَة إلى أَعلَى الدّرجات.وهذا أَصلٌ لا مَزيدَ عليه، وفيه كفايَةٌ لمن أَبصرَ النُّورَ واهْتَدَى، وعَملَ واستَغْنَى، والله وَلىُّ الهداية والتَّوْفيق.ولقد أَحسن القائل:
رَوَى الثَّعلبىّ بسَنَده عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: قَرَأَ النبىُّ صَلَّى الله عليه وسلَّم {وَمَن يَتَّق اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسبُ} قال: مَخْرجًا من مهمّات الدُّنيا، ومن غَمرات المَوْت، ومن شدائد يوم القيامة.وقال الحسنُ بن الفَضْل: ومَنْ يَتَّق اللهَ في أَداء الفَرائض يجعلْ له مخرجًا من العُقوبة، ويَرْزُقه الثَّواب من حيثُ لا يحتسب.وقال عَمْرُوا بن عثمان الصوفىّ: ومَنْ يَقفْ عند حدوده ويجتنب مَعاصيَه يُخْرجه من الحَرام إلى الحَلال، ومن الضّيق إلى السَّعَة، ومن النَّار إلى الجَنَّة.وقال أَبو سعيد الخَرّاز: ومَنْ يَتَبرّأ من حَوْله وقُوَّته بالرّجوع إليه يجعلْ له مخرجًا ممّا كلَّفه بالمَعُونة له.وقيل: ومَنْ يَتَّق الله في الرّزق وغيره بقَطْع العلائق، يَجْعَلُ له مَخْرجًا بالكفاية، ويرزقْه من حيثُ لا يحتسب.ورَوَى الثَّعْلَبىّ مُسْندًا عن أَبى الدّرداء، قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: «إنّى لأَعْلَم آيةً لَوْ أَخَذ الناسُ بهها لكَفَتهمْ» {وَمَن يَتَّق اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسبُ} فما زال يقولُها ويُعيدُها.وقال عكْرمة والشَّعبىّ والضَّحَّاك: من يُطَلّق طلاق السُّنَّة يجعلْ له مَخْرجًا إلى الرّجعة، ويرزقه من حيثُ لا يرجُو ولا يتَوقَّع.ورُوى عن ابن عَبّاس قال: جاءَ عوفُ بن مالكٍ الأَشجعىّ إلى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ الله إنَّ ابْنى أَسَرَهُ العَدُوُّ وجَزَعَت الأُمُّ فما تأْمُرُنى؟ قال: آمُرُك وإيّاها أن تَسْتَكْثرا من قَوْل: لا حَوْل ولا قُوَّة إلاَّ بالله.قالت: نعْمَ ما أَمَرَك به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فجعلا يقولان ذلك، فغَفَل العدوُّ فاستاق غَنَمَهم، فجاءَ به إلى أَبيه وهى أَربعةُ آلاف شاةٍ فَنَزَلت: {وَمَن يَتَّق اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ منْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسبُ} وقال مُقاتل: أَصابَ غَنَمًا ومَتاعًا فرجع إلى أَبيه، فانْطَلَق أَبُوه فأَخَبر النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخبره، فسأَله أَن يُحلَّ له أَنْ يأْكل ممّا أَتاه ابنُه.فقال له النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: نَعَمْ: فأَنْزَل الله عزَّ وجلّ هذه الآية. اهـ.
وقد تقدم هذا الشعر في باب الكسب والتسبب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا، فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهما طلبه بالغدو والرواح». وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة، إن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره، وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته. وضربوا فيه مثالا عجيبًا، فقالوا: إن أعمى ومقعدًا كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد، وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتسابًا لله تعالى، فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أيامًا واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده، فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما، فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا. فكذلك القدر سببه الطلب، والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه، ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمدًا في ذلك على الله واثقًا به أن تلد امرأته من غير مواقعة، وأن ينبت الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجًا ولأمر الله كارهًا.قال الغزالي أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرًا لضعفهم وتسكينًا لقلوبهم وقد أدخر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئًا، وقال: أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا. وقال عبد الله بن الفرج: أطلعت على إبراهيم بن أدهم، وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقيًا على قفاه، وإذا بحية في فمها باقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى انتبه. فحسبك توكل يؤدي إلى هذا. وعن عبد الله الهروي قال: كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال: لو أن رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز، فوالله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك، فقال له الفضيل رحمه الله تعالى: لم أعنك رحمك الله فسكن، وفي الإسرائيليات أن رجلا احتاج إلى أن يقترض ألف دينار، فجاء إلى رجل من المتمولين فسأله في ذلك وقال له: تمهل علي بدينك إلى أن أسافر إلى البلد الفلاني فإن لي مالا آتيك به، وأوفيك منه، وتكون مدة الأجل بيني وبينك كذا وكذا، فقال له: هذا غرر، فأنا ما أعطيك مالي إلا أن تجعل لي كفيلا إن لم تحضر طلبته منه. فقال الرجل: الله كفيل بمالك وشاهد على أن لا أغفل عن وفائك، فإن رضيت فافعل، فداخل الرجل خشية الله تعالى، وحمله التوكل على أن دفع المال للرجل فأخذه ومضى إلى البلد الذي ذكر، فلما قرب الأجل الذي بينه وبين صاحبه جهز المال وقصد السفر في البحر فعسر عليه وجود مركب، ومضت المدة وبعدها أيام وهو لا يجد مركبًا، فاغتم لذلك، وأخذ الألف دينار وجعلها في خشبة وسمر عليها ثم قال: اللهم إني جعلتك كفيلا بإيصال هذه إلى صاحبها، وقد تعذر علي وجود مركب وعزمت على طرحها في البحر وتوكلت عليك في إيصالها إليه، ثم نقش على الخشبة رسالة إلى صاحبها بصورة الحال، وطرحها في البحر بيده وأقام في البلدة مدة بعد ذلك، إلى أن جاءت مركب فسافر فيها إلى صاحب المال، فابتدأه وقال: أنت سيرت الألف دينار في خشبة صفتها كيت وكيت وعليها منقوش كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: قد أوصلها الله تعالى إلي، والله نعم الكفيل، فقال: فكيف وصلت إليك؟ قال: لما مضى الأجل المقدر بيني وبينك بقيت أترعد إلى البحر لأجدك أو أجد من يخبرني عنك، فوقفت ذات يوم إلى الشط وإذا بالخشبة قد استندت إلي ولم أر لها طالبًا، فأخذها الغلام ليجعلها حطبًا، فلما كسرها وجد ما فيها، فأخبرني بذلك، فقرأت ما عليها، فعلمت أن الله تعالى أملك لما توكلت عليه حق التوكل، وقيل: إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرًا أعمى بعيدًا عن الماء والمرعى، فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر، فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة، هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح، فلقط القمح وشرب الماء. ثم غابا بعد ذلك فذهل النون، وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت.وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة، وكان أوحد أهل زمانه، فساء حاله وافتقر بعد غناء، فكره الإقامة في بلده، فانتقل إلى بلد آخر، فسأل عن سوق الصاغة، فوجد دكانًا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة، وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك، فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة، وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة، وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم، فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم، فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد عملت في غير بلاده كانت في إحدى يد محاظيه، فانكسرت، فقال له: الحمها، فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها، فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد إنه يقدر على عملها، فازداد المعلم لذلك غمًا، ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع، فاشتد الملك على إحضارها، وقال: هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارًا، فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة أعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يحسن إلي بعد ذلك، فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت، ونظم عليها جواهرها، فعادت أحسن مما كانت، فلما رآها المعلم فرح فرحًا شديدًا، ثم مضى بها إلى الملك، فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته، فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية، فجاء وجلس مكانه، فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به. فما التفت إليه المعلم، ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئًا، فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أن يعمل زوجين أساور على تلك الصورة، فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل، فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك، فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبًا إلى أن عمل الزوجين، وهو لا يزيده شيئًا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه، فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتًا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك، فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشًا خفيفًا يقول:
|